جنوب أفريقيا تُحاكم إسرائيل- دروس العدالة، الذاكرة، ومستقبل الإنسانية.

لماذا تتولى تحديدًا دولة جنوب أفريقيا مهمة مقاضاة إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي، متهمةً إياها بارتكاب جرائم ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية وجرائم حرب بشعة؟
من المعلوم للجميع أن جنوب أفريقيا ليست دولة عربية ولا ذات أغلبية مسلمة.
لا تربطها علاقات اقتصادية أو ثقافية وطيدة بمعظم الدول العربية، ولا توجد بيننا جذور تاريخية مشتركة كما هو الحال مع دول مثل السنغال، أو مالي، أو تشاد.
علاوة على ذلك، لا تخوض جنوب أفريقيا صراعًا مباشرًا مع إسرائيل، إذ لا توجد حدود مشتركة بينهما ولا نزاعات عالقة.
لقد ارتكزت الرواية الصهيونية بشكل أساسي على فكرة المظلومية التاريخية التي عانى منها اليهود، وهي حقيقة دامغة لا يمكن إنكارها إلا من قبل شخص عنصري متعصب. ومع ذلك، يبقى السؤال قائمًا: هل تبرر مظلوميتك ممارسة الظلم على الآخرين، وخاصة أولئك الذين لم يلحقوا بك أي أذى قط؟
إذًا، ما الدافع وراء هذا التصرف من قبل جنوب أفريقيا، وهي تبدو – كما يقول المثل الفرنسي – "ملكية أكثر من الملك"؛ أي أكثر حرصًا على مصالح العرب من بعض العرب أنفسهم؟
للإجابة على هذه التساؤلات المثيرة للحيرة، قد يرى البعض ضرورة التركيز على الاختلافات الجوهرية بين إسرائيل وجنوب أفريقيا.
لكن المفارقة تكمن في أن الفهم العميق للمبادرة الجنوب أفريقية يتطلب، بدلًا من التركيز على الفوارق، استحضار أوجه التشابه التي جعلت الدولتين تبدوان كوجهين لعملة واحدة، وذلك منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى منتصف تسعينيات القرن الماضي.
ربما ليس من قبيل المصادفة أن قوانين الفصل العنصري، التي عرفها العالم تحت اسم الأبارتايد، قد سُنت في جنوب أفريقيا في عام 1948، وهو نفس العام الذي شهد قيام دولة إسرائيل.
لكن ما هو أبعد من مجرد الصدفة هو تلك القواسم المشتركة العميقة بين الدولتين، فقد كانتا وليدتي نفس الحقبة التاريخية، وتشبعتا بنفس الأيديولوجيات، واعتمدتا نفس آليات الحكم، وذلك على النحو التالي:
- الاستيلاء على أراضي الآخرين بالقوة الغاشمة، وذلك في سياق التوسع الاستعماري الأوروبي الذي طال جميع قارات العالم، بدءًا من القرن السادس عشر.
- تبني أيديولوجية دينية عنصرية شوفينية لتبرير الغزو والاستيطان، ومنحها غطاءً من الشرعية يتمسك به المستعمِرون ويرفضه المستعمَرون.
- ممارسة سياسات الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والتهجير القسري بهدف الاستيلاء على أراضي السكان الأصليين، أو وضعهم في مناطق معزولة (بانتوستانات) تتيح مراقبتهم والتحكم بهم عن بُعد، دون الاكتراث باحتياجاتهم الأساسية، فضلًا عن احترام حقوقهم الإنسانية المشروعة.
- خلق حالة حرب دائمة ومستمرة مع السكان الأصليين ومع دول الجوار؛ بهدف فرض سيطرة كاملة ونهائية لا تقبل المساومة.
- زرع بذور الفتنة وإشاعة مناخ مسموم داخل المجتمع، يقوم على القوة والغطرسة والتعالي من جانب المنتصرين، وعلى التحقير والإذلال والمهانة للمقموعين.
خلال فترة شبابي – أي بين الستينيات والتسعينيات – لم يكن جيلي يرى أي فرق جوهري بين إسرائيل وجنوب أفريقيا، نظرًا لتشابههما الوثيق في هذه الخصائص. لذلك، لم نُبدِ أي دهشة إزاء مستوى التعاون الوثيق بين الدولتين، والذي كان يُشاع آنذاك أنه يشمل التعاون في مجال الأسلحة النووية، أو أن نفس الدول الاستعمارية القديمة كانت تدعم الدولتين بنفس الطريقة و المنوال.
ثم حدثت القطيعة المطلقة في مطلع التسعينيات، عندما اتخذت جنوب أفريقيا مسارًا مغايرًا تمامًا للمسار الذي سلكته إسرائيل. فبينما كان نيلسون مانديلا وفريدريك ويليم دي كليرك يتفاوضان على إنهاء نظام الأبارتايد البغيض، وبناء دولة قانون ومؤسسات تحترم حقوق جميع المواطنين بغض النظر عن أصولهم العرقية أو الدينية، وإحلال السلام في الداخل ومع دول الجوار الأفريقي، رأينا شخصيات مثل بنيامين نتنياهو واليمينيين المتطرفين من أمثاله يعرقلون أي حلول سياسية ممكنة، بما في ذلك حل الدولتين، ثم شهدنا سياسة الانتحار الأخلاقي والسياسي من خلال التوسع الاستيطاني المحموم والحصار الخانق والحروب المتواصلة التي قادتنا إلى الكارثة الراهنة.
عندما تتأمل المسارين بعين البصيرة، ترى الفارق الشاسع بين حكماء جنوب أفريقيا – وعلى رأسهم الزعيم العظيم نيلسون مانديلا – الذين جنبوا بلادهم وقارة أفريقيا حمام دم، وبين الحمقى المتهورين من أمثال نتنياهو وبن غفير وسموتريتش الذين يعرضون بلادهم للمثول أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي بتهمة الإبادة الجماعية وارتكاب جرائم حرب مروعة.
في الختام، يمكن القول إن جنوب أفريقيا لا تتحدث في هذه المحاكمة باسمها فحسب، وإنما باسم القيم النبيلة التي مكنتها من تجاوز أصعب المحن التي يمكن أن تدمر مجموعتين بشريتين وضعتهما الأقدار وجهًا لوجه. قيم نحن اليوم بأَمَسّ الحاجة إليها؛ ومن أهمها أنه لا يوجد ضمان أكيد للسلام – على مستوى الفرد والشعوب – سوى احترام حقوق وكرامة الآخرين. والعكس صحيح؛ أي أنه لا يوجد ما هو أخطر على الإنسان والشعب من احتقار الآخرين والاعتداء على حقوقهم المشروعة، لأن دفع الفاتورة الباهظة التكلفة هو مسألة وقت لا أكثر.
نحن لسنا أمام دولتين متنافستين فحسب، وإنما أمام مدرستين متناقضتين في السياسة؛ إحداهما قد تفتح أبواب جهنم على الجميع، وهي مدرسة إسرائيل، والأخرى قادرة على إغلاقها، وهي مدرسة جنوب أفريقيا.
هذا ما يجعل من هذه المحاكمة حدثًا غير مسبوق في التاريخ، فالخياران مطروحان أمام البشرية جمعاء: أي مستقبل نسعى إلى بنائه؟ المستقبل الذي ترمز إليه جنوب أفريقيا، أم المستقبل الذي ترمز إليه إسرائيل؟ لذلك، يجب أن نتوقع أن القرار الذي ستتخذه المحكمة سيكون بمثابة مرجع قانوني هام ودرس سياسي بالغ الأهمية، وربما يكون بمثابة تحذير قوي اللهجة لكل من يتوهم أن النموذج الإسرائيلي يمكن أن يكون حلًا، بينما هو في حقيقة الأمر أصل المشكلة وجوهرها.
البعد الثاني: مغزى المحاكمة على صعيد أبعد حتى من الحرب على غزّة
إن إسرائيل لا تمثل أمام محكمة لاهاي في نزاع على حدود بحرية أو برية، بل بسبب اتهامها بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية النكراء. إنها تهمة شنيعة ومخزية لأي شعب، وتزداد فظاعة عندما يُتهم بها شعب عانى هو الآخر من محاولة إبادة جماعية لا تزال وصمة عار في جبين الإنسانية، وأقصد بالطبع المحرقة اليهودية التي وقعت في أوروبا إبان الحرب العالمية الثانية، والتي أدت إلى مقتل ستة ملايين يهودي في ظروف مروعة لا يمكن تصورها.
المشكلة تكمن في أن غالبية الإسرائيليين لا يستوعبون حجم المعاناة الهائلة التي تسببوا بها للفلسطينيين منذ نشأة دولتهم. في هذه القضية، هم يجمدون التاريخ عند السابع من أكتوبر، ولا يكترثون للفظائع التي ارتكبها نظام الفصل العنصري والاحتلال في الضفة الغربية، ولا لجرائم حصار غزة، ولا للتدمير الممنهج الشامل للقطاع، وما أسفر عنه من سقوط ثلاثين ألف قتيل وخمسين ألف جريح، معظمهم من النساء والأطفال.
لم يعلم العالم بوجود مئات الأطفال الأسرى في السجون الإسرائيلية إلا عندما اشترطت المقاومة الفلسطينية تبادل الأطفال بالأطفال، وكذلك الأمر بالنسبة للنساء. ولولا الفاجعة الحالية، لاستمر مئات الأطفال وآلاف النساء في الموت البطيء داخل سجون تحولت، على ما يبدو، إلى مدارس لتعذيب وإساءة معاملة عشرات الآلاف من الفلسطينيين، كل هذا دون أدنى سند قانوني، وإنما ممارسة وقحة لأبشع أنواع الظلم والاضطهاد، والهدف منه القمع والترويع وبث الخوف في النفوس.
لقد استندت الرواية الصهيونية، في جوهرها، إلى المظلومية التاريخية التي تعرض لها اليهود، وهي حقيقة لا يمكن إنكارها إلا من قبل شخص عنصري أحمق. لكن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو: هل تمنحك مظلوميتك الحق في أن تكون ظالمًا، خاصة تجاه أولئك الذين لم يظلموك أبدًا؟
إن العالم بأسره يتجه اليوم نحو الرد بحزم ودون خشية أمام حجم الجرائم التي يرتكبها "الجيش الذي لا يقهر". والأجيال الجديدة في الغرب أصبحت ترفض بشكل قاطع المنطق القائل بأن من يعارض نظام الفصل العنصري والاحتلال والاستيطان هو معاد للسامية. والأخطر من ذلك بالنسبة لليهود غير الصهاينة هو وعيهم المتزايد بأن استخدام "الهولوكوست" كغطاء لمنع أي انتقاد للإبادة الجماعية في غزة هو بمثابة المتاجرة بآلام ضحايا هذه المحرقة، وتقويض تدريجي لقيمتها الرمزية، وتبديد لكل الدروس والعبر التي يجب استخلاصها منها، وتحويل أحفاد الضحايا إلى جلادين بدورهم.
هذا يعني أن الحمقى المتهورين الذين أداروا ظهورهم في التسعينيات للحل الوحيد الذي كان من شأنه تجنب ما نعيشه اليوم، لا يضرون فقط بشعب يناضل من أجل حقوقه المشروعة، وإنما يدمرون أيضًا فرص شعبهم في العيش بسلام حقيقي، ناهيك عن تدميرهم لكل التراث المعنوي والرمزي لتضحيات اليهود الذين سحقتهم آلة العنصرية النازية.
إنها حقًا لمأساة مروعة أن تتحول الشعوب المظلومة إلى شعوب ظالمة، وفقًا للقانون الرهيب الذي وضعه فرويد: "أنت لا تحارب عدوًا لفترة طويلة إلا وأصبحت تشبهه". عندما تسمع وزير الحرب الإسرائيلي يوآف غالانت يتحدث عن الفلسطينيين كحيوانات بشرية، تتساءل: ما الفرق بينه وبين جوزيف غوبلز الذي كان هو الآخر يعتبر اليهود أقل من البشر (Untermenschen)؟ وعندما تسمع بن غفير وسموتريتش يتحدثان عن ضرورة تهجير الفلسطينيين لإفساح المجال للمستوطنين اليهود، تتساءل: ما الفرق بينهما وبين هتلر وهيملر اللذين كانا وراء سياسة طرد الشعوب السلافية من كامل أوروبا الشرقية لتوطين الألمان في أربعينيات القرن الماضي؟
هذه السياسة التي يكررها التاريخ بدلًا من تجاوزها هي التي ستمثل أمام محكمة لاهاي، ولا بد أن يكون الحكم فيها واضحًا وقاطعًا لا لبس فيه، إذا أردنا للمجزرة أن تتوقف وللسلام أن يصبح ممكنًا يومًا ما.
السؤال الأخير الذي يطرح نفسه هو: ما معنى عدم مبادرة أي دولة عربية إلى رفع الدعوى، على الرغم من أن الكثير منها يتحمل تبعات هذه الحرب بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ناهيك عن أن من يُذبحون أمام أعيننا هم أهلنا وأشقاؤنا؟ لماذا لم يظهر زعيم عربي واحد ليكون هو أول من يرفع القضية أمام محكمة لاهاي، أو على الأقل من يساند – كما فعلت بوليفيا – المبادرة الجنوب أفريقية؟
لن أجيب على هذا السؤال، فالشعوب مدعوة إلى توجيهه إلى قادتها.
قد يستفزني أحدهم بالقول: "وهل كنت ستجرؤ أنت، لو كنت في السلطة، على اتخاذ مثل هذا القرار؟" نعم، ورأس وائل الدحدوح، لما ترددت لحظة واحدة.
شكرًا لجنوب أفريقيا وبوليفيا باسم كل العرب. رحم الله شهداء المجازر المروعة، وشفى الجرحى، وأعاد لهذه الأمة بعض عزتها وكرامتها، ولا بد لليل أن ينجلي والفجر أن يطل.
